تُعتبر المواطنة ركيزة السلم الأهلي في أي مجتمع من المجتمعات، ولأن الحالة الفلسطينية ملتبسة ما بين السلطة التي تطمح للتحول إلى دولة وبين مرحلة التحرر الوطني من أجل إنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني، فإن مفهوم السلم الأهلي يكتسب خصوصية معينة.
أصدرت السلطة الفلسطينية القانون الأساسي عام 2003، واعتمدت سلسلة من القوانين، ولديها جهاز للقضاء. وبغض النظر عن حالة الالتباس بخصوص هذه القوانين وغياب الانتخابات والتداول السلمي للسلطة واعتماد قرارات بفعل القوانين والانقسام القانوني بين غزة والضفة كأحد إفرازات الانقسام، وهيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، إلا أننا نستطيع القول إن هناك مرجعية قانونية بالإمكان الاستناد إليها لتنظيم العلاقة بين المواطن والسلطة (الدولة).
يُشار هنا أن القانون الأساسي يستند إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وفلسفة المواطنة المتساوية والمتكافئة التي أسست لها وثيقة الاستقلال الصادرة عن المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1988.
يعيش الشعب الفلسطيني في كل من الضفة والقطاع ظروفًا صعبة ويواجه تحديات مصيرية ترمي إلى تصفية القضية الوطنية من خلال حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة منذ الثامن من أكتوبر للعام 2023، والذي يعمل على استنساخها وإن كان بأشكال أخرى في الضفة الغربية عبر استهداف مخيماتها وتنفيذ عمليات تطهير عرقي جزئية.
إن عدوان الاحتلال على الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع يدفع إلى اعتماد مقاربة تستند إلى مرحلة التحرر الوطني في مواجهة التحديات المصيرية والوجودية التي يتعرض لها شعبنا.
يتضح من قراءة أفكار وتوجهات حكومة الاحتلال الفاشية أنها تستهدف الجميع، ومما يؤكد ذلك تصريحات سموتريتش الذي اعتبر عام 2025 هو عام حسم الصراع وضم الضفة الغربية، كما أن تصريح بن غفير عن نيته لاقتراح قانون بالكنيست بشطب اتفاق أوسلو يعكس الرغبة بإسقاط أو تقويض السلطة.
ومن الواضح أن هذه التصريحات تأتي في سياق استثمار وجود ترامب في رئاسة البيت الأبيض، والذي يُعتبر مؤيدًا بلا حدود لدولة الاحتلال، وهذا ما ظهر مؤخرًا من خلال مشروع تهجير أهالي قطاع غزة وتحويله إلى "ريفيرا الشرق".
وعليه، فإن محاولة النأي بالنفس من قبل السلطة أو اعتماد السياسة الانتظارية والرهان على المتغيرات لن تُجدي أمام إحساس حكومة الاحتلال أن اللحظة التاريخية أصبحت مواتية لتصفية القضية وتنفيذ عملية التهجير، حتى لو كان "طوعياً".
ولصيانة السلم الأهلي، فنحن بحاجة للعمل على المستوى المؤسساتي عبر تشكيل حكومة توافق وطني وفق إعلان بكين، وتحقيق الشراكة السياسية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية عبر إدماج الكل الوطني بمكوناتها لاتخاذ قرارات الحرب والسلم بصورة توافقية، ولإعادة تعريف السلطة بوصفها سلطة خدماتية تعمل على تعزيز صمود المواطنين وتنفذ مبدأ سيادة القانون وفق منظور المواطنة، الأمر الذي يتطلب العمل على إجراء الانتخابات الشاملة بما يعزز التشاركية بين كافة الفاعليات السياسية.
من جهة أخرى، يجب العمل على المحور المجتمعي بما يعزز من وحدة النسيج الاجتماعي، والعمل على محاصرة المظاهر السلبية التي نشأت بسبب العدوان وخاصة في قطاع غزة، مثل تجار الحرب وغلاء الأسعار والسرقات والسطو على المساعدات الإنسانية والاحتقانات العائلية والفئوية السياسية والنزعة الفردية، بما يختلف عن المظاهر التي سادت إبان الانتفاضة الشعبية الكبرى، والتي كان التكافل والتضامن الاجتماعي من أبرز سماتها.
يعمل الاحتلال على التقسيم والتفتيت الجغرافي والديموغرافي، كما يعمل على التجزئة بين مكونات المجتمع الواحد.
لقد بتنا نلمس أن هناك هوة ثقافية ونفسية تتسع بين غزة والضفة، وفي قطاع غزة هناك تمايزات بين الشمال والجنوب، وبين الذين خرجوا من القطاع قسرًا بسبب العدوان إلى مصر وبين الذين بقوا في القطاع، كما كان هناك تمايز بين لاجئ ومواطن، إلى جانب التمايز بين الفاعليات السياسية الذي تعززت به النزعة الفئوية بسبب الانقسام بين فتح وحماس. كما توجد تمايزات أيضًا في الضفة على أسس جهوية وعائلية ومناطقية وسياسية… إلخ.
إن إظهار حالة الاختلافات والتمايزات لا يقلل من المظاهر الإيجابية التي أثبتها شعبنا، وخاصة صموده الأسطوري في قطاع غزة أثناء العدوان الذي استمر لأكثر من 15 شهرًا، وإفشاله لمخطط التهجير عبر عودته من الجنوب إلى الشمال لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار، في مشهد يثبت التمسك بالأرض والهوية.
إن إبراز الظواهر السلبية يهدف إلى معالجتها وليس إلى جلد الذات، حيث إن الجميع يدرك أن الحروب تُفرز العديد من المظاهر السلبية وكذلك الإيجابية.
وعليه، فإن تظهير بعض المظاهر السلبية يرمي إلى لفت الأنظار لمعالجتها، والتفكير بالأدوات والوسائل القادرة على سد الثغرات وترميم الفجوات، وذلك بهدف إعادة اللحمة في بنيان وهياكل المجتمع.
هناك تحدٍ كبير يواجه الفاعليات السياسية والمنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني وهيئات السلم الأهلي، بهدف العمل على إعادة تأصيل مفهوم ثقافي مبني على التكافل والتضامن والتماسك لتعزيز وحدة النسيج الاجتماعي، وكذلك مبني على فلسفة المواطنة المتساوية والمتكافئة في إطار منظومة مؤسساتية قانونية تستند إلى آلية المشاركة وتتسم بالشفافية.
إضافة تعليق جديد